في بيئة جاهلية لم تدرك أنّ عاطفة الأبوة أمرٌ فطري جُبِل عليها الإنسان والحيوان، فشكّلت آباءً تيبَّست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وخلقتْ قلوبًا تستهين بمشاعر الصّغار؛ أدَّتْ إلى أن تصبح نفوس الأبناء مشحونة بالكراهية تجاه منِ انتكستْ فطرته؛ لا سيما لو بُشر بمولود له أنثىٰ، فيظل وجهه مُسودًا وهو كظيم، ولا يطيب نفسًا إلا إذا وأد ابنته حيةً بأن يدسّها في التّراب، بدلًا من أن يمسكها على هُونٍ وعارٍ.
هكذا صوّر له خياله المريض وعادات قميئة لم ينزل الله بها من سلطان، وتقاليد تجعله يتوارىٰ مِن القوم من سوء ما بُشّر به.. فكانت تلك البيئة الجاهلة في أمَسّ الحاجة لمن يُلقّنها درسًا عمليًّا في كيفية التّعامل مع الأبناء؛ بناتًا وصبيانًا، بل وتقيم لهم وزنًا.
جاء الهادي البشير ليُعلم الإنسانية تقدير الصّغار.. فنراه يُقعِدُ طفلًا إلى يمينه في مجلس للكبار، فيأتي الشّراب ليشرب منه؛ فيستأذن من الغلام ليبدأ بإكرام الشّيوخ الذين هم عن يساره، فيرفض الغلام قائلًا: لا والله لا أُوثر نصيبي منكَ أحدًا !! فلم يعاتبه النّبي أو يعنفه أو يجبره على التّنازل عن حقه !! ويزيد في احترام نفسية الطّفل حين يرىٰ امرأة تنادي وليدها وهي تغويه بهدية كي يأتيها، فينبهها النّبي -صلىٰ الله عليه وسلم- قائلًا: "أمّا إنّك إن لم تعطه شيئًا كُتبت عليك كذبة".. وفي هذا عدم الاستهانة بمشاعر الأطفال.
جاءه البدوي فنهره؛ حين علِم أنّ لديه عشرة من الأبناء لم يُقَبّل أحدهم أبدًا؛ فيقول له الرّسول الكريم: "مَن لا يرحم لا يُرحم".
ولما دخل على ابنه "إبراهيم" وهو يجُود بنفسه (على وشك الموت)؛ قال له: اصبرْ واحتسبْ، بَيد أنّ عَين الأب فاضتْ شفقًا وعطفًا وحنانًا؛ فلما سُئل قال: "إنّها رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنّما يرحم الله من عباده الرّحماء".
ولمّا سمع عن غلام يهودي مريض؛ ذهب فعادَه، وطلب منه أن ينطق بالشّهادة، فلما نطق؛ حمد المصطفى ربه الذي أنقذ الغلام من النّار.
لم يفاضل قَط بين ذكرٍ أو أنثىٰ؛ فكان يُصلّي حاملًا حفيدته "أُمامة"، فإذا سجد وضعها على الأرض، وإذا قام حملها ثانيةً، كذلك فعل مع "الحسن" و"الحُسين" أبناء السّيدة "فاطمة" -رضي الله عنها- وذات مرة أطال سجوده؛ لأنّ أحدهما ركَب على ظهره الشّريف، فلما سُئل قال: "ابني ارتجلني، فكرهتُ أن أعجله حتى يقضي حاجته"، ولما دخل عليه "عمر بن الخطاب" ورآه يحمل "الحسن" و"الحسين" على ظهره؛ قال: "نِعْم الفرَس تحتكما"، فقال النّبي: "نِعْم الفارسان هما"، ولمَّا خرج ذات يوم شارك طفلًا صغيرًا اللعب بعصفوره لأجل أن يُدخل السّرور على قلبه.
كان يدلِّل؛ ويلاطف؛ ويشفق على أبناء المسلمين كافّة، يهنّئ بميلادهم ويحنّكهم (يلوك أفواههم بالتّمر فور ولادتهم)، يسمِّيهم، يباركهم، يحث المسلمين على الابتهاج بمقدمهم، ويدعوهم للعقيقة عنهم يوم سابعهم، بل ويَشهد بنفسه تلك الولائم إعلاءً لشأنها كي يُدخل الفرح على قلوب الوالدين.
ذات مرّة أتته طفلة صغيرة ترتدي قميصًا أصفر؛ فبُش لها وقال: "أبلِي وأخلِقي"؛ أي أنّك ستعيشين حتى تستهلكي الكثير من الثّياب، وهو دعاء بطول العُمر، فبقيتْ حتى طال عمرها وذكّرها الناس بقوله صلىٰ الله عليه وسلم.
حمل غلامًا ذات يومٍ فبالَ عليه؛ فلم ينهره ولم يتأفّف بل دعا بماء لينظف ثوبه، وكان إذا سمع بكاء طفلٍ في الصّلاة خفّف؛ كي لا تنشغل الأم بوليدها؛ وكراهية أن يشُقَّ عليها.
كان يُدلل "زينب" ابنة زوجته "أم سَلمة" ويناديها "يازنّاب"، وأجاز لابنته أن تجير زوجها وتفتديه من الأسر بقلادتها، رغم أنه بقِي على شِرْكه، لكنها أجارته إكرامًا للعِشرة التي كانت بينهما، مما حدا بِ "أبي بكر الصّديق" أن ينادي ابنته "عائشة" -رضي الله عنها- بـ "أمي".
وروىٰ "أنس ابن مالك" كيف أنّه لم ير أرحم من "النّبي" بالعيال، فقد كان "النّبي" يزور البادية خصيصًا ليرىٰ ولده "إبراهيم" ويُقبّله في فترة استرضاعه كعادة العرب آنذاك- وكان يتردّد على ابنته "فاطمة" ليستمتع بمرأىٰ ولديها ويشمهما.
حياته كلها قضاها في جهاد؛ وتبليغ؛ واستقبال وفود؛ وقيادة أُمة؛ وبناء دولة؛ وتعليم؛ وبعث رُسل وسَرايا؛ لكن كل ذلك لم يشغله عن أطفال المسلمين أو يحجب عطفه على أبنائه، فلم يتوانَ في تعليم أحفاده دينهم وكيف تكون علاقتهم مع الخالق، ولم يغض الطّرف عن حفيده الصّغير حين مد يده لتمرة يودُّ أن يستطعمها.. فيرفض "النّبي" ويخرجها من فمه لأنها مخُصصة للصّدقة !! و"النّبي" لا تحلُّ له الصّدقة ولا لآل بيته؛ وفي هذا تعليم للصّغار على توخي الحذر من الحرام مهما صغُر شأنه.
لم يكن غريبًا أن يراه النّاس كلما دخل "المدينة" وقد ركب معه على ناقته بعض الصّبيان، والفرح والحبور يغمره وهو يلاطفهم، ويعلمهم: "يا بني؛ احفظ الله يحفظك...".
لم يكن ينصح بشيءٍ قط ولم يأت بمثله، فكان في عبادته وحيائه وخشوعه ورقته ومساعدته لأهل بيته وتبسمه وتواضعه ولين جانبه؛ ما يجعلهم يتعلمون منه سلوكيًا دون الحاجة لكثير من الكلام، لذا جاء من صُلبه ومِن أصلاب المسلمين في هذه الفترة على وجه الخصوص رجالٌ ونساءٌ عِظام أصبحوا نجومًا هادية للبشرية.
ومن اهتمامه الشّديد بتعليم النّشء؛ كان يطلب من الأسير الذي يود أن يفتدي نفسه أن يُعلِّم عشرةً من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، ليُعدَّ جيلًا متعلمًا يقود الأمة مِن بعده.
جاءه أحدهم يبلغه أنه أهدىٰ واحدًا من أبنائه، فيسأله النّبي -صلى الله عليه وسلم-: "أعطيتَ سائر ولدك مثل هذا ؟" فينفى الرَّجل، فيقول له: "فاتقوا الله وأعدِلوا بين أولادكم".
جاءه "أنَس" يحمِل ولده على فخذه وابنته بين يديه؛ فيقول له النّبي: "ألا سويتَ بينهما ؟".
كان يمسح خدود الأطفال رحمةً بهم وإعجابًا، واحترامًا لذات الطّفل وقيمته، وأمر باحترام عقولهم وآرائهم وعدم تسفيهها، وفي ذلك ما من شأنه يجعله ينمو عقليًّا وعاطفيًّا واجتماعيًّا بشكل سَوِي.
---------------------------
بقلم: حورية عبيدة